عن أعراس فاس: فصول من طقوس خالدة (ج1)
في مقال سابق، كانت دفة الحديث قد ساقتنا فيه لوصف مقتضب وموجز لكسوة الجوهر أو اللبسة الفاسية، كما تُعرف بها خارج أسوار الحاضرة، وقد أوردنا في مقدمة المقال مقولة من الأقوال الشعبية المنتشرة زمن السعديين: "إن المسيحيين ينفقون أموالهم في الخصام، واليهود ينفقونها في العيد، أما المسلمون فينفقون أموالهم في الأعراس".
وإن كنا مررنا مرور الكرام عليها، فاليوم هلموا وأخرجوا كراريسكم وأقلامكم، تابعوا معنا ودونوا كم من فرنكات عزيزية، وريالات حسنية، ودراهم منصورية وغيرها من عملات كانت تُصرف بحاضرة المولى إدريس في أيام معدودات تمتلئ فيها الدور، تُمد الصحف و تدور كؤوس الشاي مع الحلوى على أنغام الآلة والزغاريد، على تعشيق النكافات وتوشيح المادحين فعوائد الزفاف بالمغرب، وفاس خصوصا، هي تاريخ ضارب في جذور الأرض وهي ملحمة خالدة، لوحة تنكشف أمامنا ومسرحية غنائية لنكشف عنها الستار الأحمر ولتمتد الحاضرة بأسوارها وأبراجها أمامنا، لتدخل الجوقة وتنشد لنا خبرا عن فاس و طقوس أعراسها.
هم مثلنا فاسيون أقحاح من قاع قيعان فاس... أنا لن أعطي ابنتي لولد لا نعرف شيئا عن نسبه... الفاسي للفاسية، هذه ضمانة وحيطة لا يجوز التفريط فيهما. *
إلى حدود عهد قريب، كان من الشائع أن يتم تزويج الفتيات بمجرد أن يبلغن الحلم، أو ربما قبل ذلك، بينما العرسان لا يتجاوزون في العادة السبع عشرة سنة، أي سن المراهقة، الأعوام التي يميل فيها الشبان للتمرد والتأفف من كل سيطرة تتعارض وهواهم، أمر فسره الأولون أنه دليل الرغبة في الزواج الذي به تتهذب النفس وتصير أكثر اتزانا؛ وقد تندّر الأولون بمثل شعبي يرددونه لكل من صار ضيق الخلق كثير التمرد: "العزري إلى عواج عرفوا حبّ الزواج".
وكان ذلك على سبيل التندر فقط، إذ أن الشاب لا يبوح قط برغبته في الزواج حياء من والديه لكن ما يعتريه من تغيير يجعل الأم تفهم وتتسلح استعدادا لرحلة البحث عن عروس لربما تجدها بين بنات العائلة؛ فابن العم أولى وأسبق من كل غريب كما هو العرف القائل: "ولد عمها يخرجها من الكبة"، أي بإمكان ابن عم العروس أن يتزوجها وإن تم الاتفاق المسبق على الزفاف مع غريب. إذ أن مجتمع فاس، ككل المجتمعات المحافظة، يفضل زواج الأقارب ويحرص ذوو النسب الشريف على ذلك أشد الحرص، ولعل الشرفاء العلويين كانوا في ذلك أكثر تشددا، فلزمن طويل لم يكن للشريفة العلوية من عريس سوى شريف علوي من أقربائها، إن وُجد، أما إذا فُقد فمصيرها "دار الشريفات"، حيث العوانس والأرامل من ذوات الحسب يعشن على أوقاف خاصة بهن، وقد أُلغيت العادة بظهير شريف ثلاثينات القرن الماضي.
أما إن كانت بنات الأعمام والاخوال من المتزوجات أو الصبيات فالأم تتجه بنظرها للائحة المعارف، وقد تكون المرشحة فتاة لمحتها بزفاف، رصينة تضبط آداب فاس وتحترم أخلاق اللياقة العامة، أو شابة مكتملة الصحة، طيعة لينة رمقتها بين قاعات الحمام الضبابية وهي تمشط شعرها أو تحمل قباب الوضوء لأمها؛ هذا وتجتمع النساء من صويحبات الأم ومن معها بالدار يتداولن ويخترن فتستشرن بعضهن وقد يؤتى "بالنكاكف"، جمع نكافة باللسان الفاسي ولنا عنهن حديث لاحق، اللائي يعرفن الأوانس، أو في حالة العائلات المتواضعة، تُسأل الدلالاّت اللائي يطفن البيوت ويعرفن ذوات الخدور.
ولمّا يستقر الرأي، تُخبر الأم رب الأسرة؛ ويحدث أن يكون رب الأسرة هو من يقترح ابنة قريب له أو صديق، المهم أن الاتفاق الأول يكون بين الوالدين وما إن يرسيا على عروس تليق بابنهما حتى يُوسطا من يخبره فلا الوالد ولا الوالدة يكلمان المعني في هاته الأمور التي تهتك بحجاب الحياء وتزعزع حائط الاحترام والتوقير المحيط بهما، يُناط الأمر لصديق يُخبره ولقريبة كأخته لتصف له العروس وتزينها له في انتظار أن يراها.
تستعد الأم للزيارة الأولى مرفوقة بقريباتها وهن في كامل زينتهن لدار العروس التي تختفي عن الأنظار، فاللياقة تفرض ألا تراهن أم الخطيب ولا قريباتها اللائي كن يتعللن بأمر أو غيره ويطفن بين الحجرات إلى أن يفاجئنها.
تُغادر النساء على أمل عودة قريبة، يتسنى فيها للزوجة أن تخبر زوجها الذي يتطقس ويسأل عن العائلة وأحوالها، ومرة أخرى، يُؤتى بالخطابات لدار العروس وتُسألن عن كل شاذة وفاذة تخص أهل الخطيب ولم يكن ذلك بالعسير إذ بد من وجود قرابة أو معارف مشتركين للعائلتين، ف"ريال جاوي يبخر فاس" مما يعني أن كل الأخبار تنتشر بسرعة في مدينة كل عوائلها متصلة بالدم أو بالتجارة.
ولما يحين يوم اللقاء من جديد، فمن باب الدار وطريقة الاستقبال، يُعرف جواب أم العروس التي لا تدخر جهدا في الترحيب بالحماة المستقبلية ومن معها إن كان القبول ويُناط أمر الفتاة لوالدها أو من ينوب عنه ليصير الأمر "شغل الرجال" حاليا.
بعد الموافقة المبدئية، ينسدل ستار فصل و يُفتح آخر على حجرة بها الرجال وقد انتهوا من وجبة دسمة وتحدث أحد رفقاء الأب، والرفيق منتسب لبيت النبوة في أغلب الحالات، وهو يخطب يد المصونة من والدها الذي يبدي الإيجاب فتبدأ مفاوضات الصداق بين ذهاب وإياب حتى تنتهي بالزغاريد المرتفعة من خلف الدرابزين والستائر معلنة بداية الزفاف وينتشر الخبر ليبلغ دار العريس حيث أمه تُحضر هدايا ل"كمالة العطية" التي تُرسل فيها قطع قماش وتمور مع شموع وحناء للكنة المستقبلية في حفل هو "الزغاريت" تدعو فيه الأم قريباتها لمأدبة ويتجهن، رفقة النكافة، لدار العروس يسلمن الهدايا بينما صاحبة الأمر مختفية دائما، كما تقتضي بذلك التقاليد فالعروس تلتزم الصمت والخدر وإلا وُصمت أنها "خفيفة".
بعد إكمال الاتفاق فالخطبة الرسمية تُقام يوم جمعة بعد العصر يقوم فيها الصهران ومن معهما بالالتقاء في ضريح مولاي إدريس، مسجد او زاوية ينتمي إليها والد الفتاة، ويقرأ الحاضرون الفاتحة داعين باليمن والخير للعروسين.
أنا دون خفا امّلكة
هذا عام ونص ما خطات تفكيرة فالاعياد**
تدوم الخطبة بين ست أشهر وسنتين، لا بد أن يُرسل فيها الخطيب لخطيبته هدايا عند حلول كل عيد إسلامي وتُسمى الهدايا ب"التفكيرة"، هي مناسبة يُظهر فيها الخطيب وعائلته أنهم متمسكون بالعروس ويقدرونها.
وتنتهي فترة الخطوبة بأداء المهر الذي يُدفع في احتفال بالدارين، يأتي العدلان ل"تطياح العقد"، أو "ضريب الصداق" في مناطق أخرى، يعد أب العريس المهر أمامهما دراهم رنانة، في زمن سابق، ويضعه في أكياس ثم يحمله العدلان وبعض الأمناء لدار العروس حيث يحرر العدلان العقد الذي قد يتضمن شروطا من قبيل "الداخلة بالخارجة" أي إذا ما تزوج عن العروس وجب عليه تطليقها.
تم الاتفاق إذن وحُرّر العقد فصار الزفاف يقترب أكثر وأكثر وامتلأ فناء الدارين بالمهنئات والمساعدات من القريبات والبعيدات فأيام الزفاف أيام طويلة وكل مساعدة هي مُرّحب بها.
وهنا ينسدل الستار عن فصل البدايات و تتسلح النساء في الكواليس و تبدأ الاستعدادات فتُفتح صناديق القفاطين وعلب الجواهر لتبرز كل ما لها من زينة وتتنافس المتنافسات وتتوقف عند بعضهن كل حياة إلى حين إكمال مراسيم الزفاف.
بقلم الباحث: إلياس أقراب
* عن رواية "حين تترنح ذاكرة أمي" للطاهر بن جلون ترجمة رشيد بنحدو ص: 10
** عن قصيدة الملحون الزمنية والعصرية من نظم الشيخ حسن اليعقوبي وأداء الحسين التولالي.
المصادر تجدونها بآخر مقال حول الموضوع.