مولاي إدريس الأزهر: ولي المدينة وأميرها

مولاي إدريس الأزهر: ولي المدينة وأميرها

عبارة "شايلاه أ مولاي إدريس" توسل ما فتئ الأولون يرددونه وهم على مشارف الحاضرة يغادرونها أو يعودون إليها، فهذا الولي هو وليها الأول. فلكل مدينة ولي تشتهر بها ولا يمكن ذكر فاس إلا واسم مولاي إدريس مقترن بها. ذاك الأمير، ابن كنزة وسليل الدوحة النبوية الشريفة، ابن رجل جاء فارّا من المشرق ففتح الله عليه وألان قلوب أهالي أوربة التي استقبلته وجمع حوله القبائل فحسن إسلام أقوام عدة وبدأت بوادر استقلال المغرب عن حكم المشارقة.
ذاك الأمير، الذي دعا ربه فاستجاب له وأعمر مدينته من كل حدب وصوب حتى شاع ذكرها في أقطار الأرض وعلا كعبها بين المدن فكانت كما القمر بين النجوم، كما ذكر الحاج إدريس بن علي الحنش في قصديته الإدريسية.
وإن كانت تختلف الروايات، كما هو الحال في التأريخ للمدن والدول، حول من بنى مدينة فاس أول مرة هل المولى إدريس الأكبر أم ابنه الأزهر، فإن الثابت أن المولى إدريس بن إدريس قد وسّع المدينة وبنى أسوارها ورفع مئذنة جامع الأشياخ بها معليا اسم الله العظيم في رقعة لم يرتفع فيها الآذان قبلا، فألان ذكر الله القلوب، وبارك رب السماوات الأرض، فدانت له الأقوام بالذكر تارة وبالسيف تارة أخرى، حتى صارت الرقعة مدينة واجتمع فيها أهل الأندلس والقيروان مع الأوربيين وغيرهم من أهل الأقصى.
توفي المولى إدريس، الملقب بالأزهر، حوالي سنة 213هـ/828م وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقيل ثمان وثلاثين، ودفن بمسجد الأشراف قرب قصره، دار القيطون،  إزاء الحائط الشرقي بينما ذهب الدمياطي والبرنسي أنه دفن بجوار أبيه في رباط وليلي.
ولمّا خلفه عقبه بعده، فإن السيرة الإدريسية لم تنقطع وبقي له ذكر بين القوم إلى أن أمر الله بزوال مُلك الأدارسة ومجيء الأمراء الزناتيين الذين طمسوا ذكر بيت إدريس وفرّ عقبه خارج فاس خوفا من القتل والاضطهاد.
والذاكرة تحتفظ بذكر أمير زناتي لعله هو أكثر من سعى بكل ما يملك أن يمحو ذكر الشرفاء الأدارسة؛ بل وكاد يستأصل شأفتهم وينهي ذريتهم بقلعة حجر النسر؛ هو موسى بن أبي العافية الذي أشاع، حين ملك فاس، بأن لا ضريح في مسجد الأشراف وإدريس إنما هو مدفون بجانب والده.
وكما هو معهود في التاريخ الإنساني فإن كل شيء ينقصه الاعتناء هو ذاهب إلى الزوال كما كان الحال بمسجد الأشراف الذي دار عليه الزمن وتوالى عليه الحكام، فصار أنقاضا ماضية تحكي تاريخ قوم كانوا وغاب عن الألسن ذكر للمولى إدريس ودخلت ذكراه طي النسيان مع الأيام التي أصحبت سنين وعقود إلى حين عام 1437 من التاريخ الميلادي الموافق لعام 841 من تاريخ الهجرة المباركة.
بانت إمارات وبادت أخرى فقد انصرمت حوالي ست قرون على دفن مؤسس المدينة وملكها الأول. أيامها، كان نجم بني مرين يهوى وكوكب بني وطاس يسطع.
ولما عُرف عن المرينيين من الاعتناء بالمساجد والمدارس، فإن قد تقرر ترميم مسجد الأشراف العتيق. وعندما كان يهيأ لترميم الجامع، إذ أن حائط القبلة من جانبه الأيسر كان قد اختبر فقد تم حفر الأساس وحينها كُشف عن قبر الولي وجثمانه.
وأوردت مصادر منها اللوحة الرخامية المعلقة بالضريح وكذا ما جاء به الكتاني في كتابه عن مناقب المولى إدريس أنه حين تم كشف القبر فقد وجدوا أن خشب اللحد قد تفتت وأتت عليه الأحقاب، إلا أن جسد المولى إدريس لم يكن للأرض عليه من سبيل ولا نال منه الدهر ما يناله من معظم الأجساد، وقد ذاع ذلك وانتشر فجاء الشريف الجوطي، نقيب الشرفاء، ويحيى الوطاسي، الوصي الأول للسلطان المريني، ليشاهدوا ذلك. وقد أفتى الفقيه العبدوسي، الذي رافق الرجلين، بعد تداولهم بأن يبقى الجسد بمكانه ويُبنى عليه ضريح يميزه.
وإن كانت اختفت عادة إجلال مولاي إدريس لقرون فإنها عادت بعد ذلك وبسطت سطوتها حتى صار من لم يزر المولى إدريس الأزهر كأنه لم يزر فاس، واشتهر الموسم السنوي للولي الصالح وتنافس كل القوم في تقديم أحسن كسوة للضريح الإدريسي.
 بعد ولاية بني مرين اعتنى كل من سلاطين الدولة، وطاسيين وسعديين أوعلويين كانوا، ومن الأعيان والعلماء بالضريح الإدريسي وما فتئوا يوسعونه إلى أن أمسك زمام الحكم السلطان مولاي إسماعيل.
السلطان العلوي الذي كان له الفضل الكبير في تكبير وتوسيع الزاوية الإدريسية وقد ساهم أهل فاس بالمجان في أشغال البناء فقسموا الأحياء على واحد وعشرين قسمة كل قسمة تخدم يوما بقضها وقضيضها.
السلطان وأهله وحاشيته مع الأعيان والعلماء والأشراف ومعهم التجار والحرفيون وعوام الشعب، كلهم ساهموا وجعلوا الزاوية الإدريسية على ما هي عليه من تزويق وإبداع بقبتها الكبيرة الهرمية الخضراء التي تضم الضريح الشريف المغطى بدربوز من الخشب المنحوت والمرصع بترصيعات نحاسية وذهبية؛ بنافوراتها الرخامية التي تزين الصحن؛ وبصومعتها العالية.
ومن أيام السلطان أبي النصر الشريف إلى عهد جلالته محمد السادس فإن أشغال الترميم والإصلاح لم تتوقف عن الضريح ولعل آخرها هذا الزمان هو ترميم عام 2014.

يُقال إن أول من جعل الضريح الإدريسي حرما يلتجئ إليه المحتمون من المخزن أو غيره فإلى المولى إسماعيل ينسب ترصيف أزقة الحرم وتحديد حدوده بعارضة خشبية.
والحرم، كما فسره أوبان، هو حق التجاء إلى مكان مقدس ولا يحق لأي كان أن يخرجك من هذا المكان المقدس وهذا الامتياز يكون لأولياء وأضرحة عن طريق ظهير شريف يقر بحق الالتجاء لهذا الولي أو تلك الزاوية وهو من الأشياء المعلومة بالمغرب عامة وحاضرة فاس خاصة كانت بها مزارات تعتبر حرما كزاوية سيدي أحمد الشاوي، زاوية سيدي أحمد الصقلي، سيدي علي بوغالب وغيرهم.
إلا أن اللافت للنظر بالحرم الإدريسي أنه لا يقتصر على الزاوية فقط بل يشتمل أجزاء من الأحياء المحيطة، فما إن يتجاوز الشخص العارضة المؤطرة لحدود الضريح حتى يكون داخل الحرم الإدريسي الذي يشمل عدة مبان ومنشآت منها:
-دار بلارج: وهي دار تفضي إلى سوق الدلالة وترجع تسميتها إلى أن لقلقا أحضر قلادة ذهبية بثمنها تم ترميم حائط الضريح وبناء الدار التي تعتبر وقفا على الحرم الإدريسي وكانت سابقا تعنى بعلاج اللقالق وإطعامها.
–دار القيطون: هي المكان الذي يقال أن المولى إدريس نصب "قيطونه" –خيمته- فيه  وهي تفضي إلى درب الدويرة. كانت سابقا ملجأ النساء المحتميات بالولي.
–جامع المقلقين: غير بعيد عن دار القيطون وبنفس الدرب يقع مسجد كان بمثابة ملجأ للمحتمين بالضريح وسمي بالمقلقين لأن الصلاة تقام فيه عقب الأذان مباشرة. 
-مجزرة الولي الصالح وهي مفصولة عنه بميضآت كانت بمثابة الحرم لليهود الذين لم يترددوا في الاحتماء بمولاي إدريس عن طريق الدخول من سوق العطارين.
–قبالة صندوق المولى إدريس، المزارة، هناك دار الخطيب الموصولة بالضريح.
نلاحظ أن الحرم بالزاوية الإدريسية ممتد وكبير كبر مكانة الولي في قلوب أهل فاس والمغاربة قاطبة فهذا الحرم ضم العبيد الأبقين، القياد الفارين من عقوبة مخزنية، اللصوص واللاجئين السياسيين إضافة إلى النساء الهاربات من سطوة زوج عنيف أو البائسات في منازلهن.
ومادام هؤلاء "المزاوكين" داخل الحرم فإن لهم أن يعيلوا أنفسهم وطالما هم به فلا أحد يمكنه أن يخرجهم منه حتى السلطان نفسه.
يحدث أحيانا أن يُدعى الطرف المحتمي بالولي للتفاوض وإن حصل ذلك فكان الخارج من الحرم يغادر حاملا لوحة قرآنية تنسب للمولى إدريس ويرافقه أحد الشرفاء إلى أن يتم الصلح أو غير ذلك كما حصل في عهد السلطان المولى الحسن عندما التجأ أخوه المولى الحسين إلى الحرم الإدريسي بعد أن فشلت مؤامرته ضد أخيه وقد بقي في الزاوية سنين عديدة إلى أن جاءه العفو.
ولم تكسر هاته القاعدة في طلب الحرم إلا عندما احتمى قاتل المبشر الإنجليزي كوبير بالزاوية الإدريسية وضغطت سلطات الحماية على المولى عبد العزيز فعمد إلى إخراجه من الزاوية وهو يحتمي باللوحة المقدسة وما إن وصل إلى القصر حتى تم التحايل عليه لأخذ اللوحة منه وتنفيذ حكم الإعدام.
غير هاته الحالة فلم يرد أي تجاوز بالحرم الإدريسي  قبل تاريخ 1948 عندما التجأ أحد الصعاليك، الذي هتك عرض فتاة من عائلة فاسية نبيلة وكاد يودي بحياتها لولا تدخل أحد اليهود لنجدتها إلى الحرم وتم إخراجه منه مع تطبيق عقوبة "التحويف" عليه وهي تطويفه على ظهر حمار عن طريق إجلاسه عكس المعتاد والتنكيل به في الأسواق والطرقات العامة.
بعد ذلك وحوالي 1953/54 اتفقت السلطات الفرنسية والمغربية على إلغاء الحرم في كل زاوية وضريح كان يصلح لذلك بالنسبة لكل الأبقين من تجار الممنوعات، السارقين وغيرهم.
انتهى زمن "المزاوكة" وبقيت الأضرحة مزارات لكل طالب للراحة النفسية كما أن الحرم الإدريسي الآن أصبح من أكثر الأماكن امتلاءا بالسياح خاصة بعد أشغال ترميم الضريح وحرمه الذي أصبح يضم قيسارية بخمسة أسواق فيها كل ما يشبع فضول الزائر للصناعة التقليدية المغربية.
أبدا لم ولن يفقد الضريح الإدريسي مكانته في قلوب أهل فاس ممن حملوا في طيات ذاكرتهم زيارات هذا الولي مساء كل جمعة رفقة أمهاتهم.
وآخر ما يمكن أن نختم به مقالنا هذا هو حربة قصيدة الحاج إدريس بن علي الحنش الذي نظم مدحا في هلال الأولياء، المولى إدريس الأزهر قائلا:
"عاري عليك مولاي ادريس الولي                    أولد لالة كنزة غير علي"

بقلم الباحث: إلياس أقراب

المصادر والمراجع:
عبد الرحمان بن زيدان: الدرر الفاخرة بمآثر العلويين بفاس الزاهرة، الصفحة 40.
محمد بن جعفر الكتاني : سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من الصالحين بمدينة فاس، الجزء الأول، الصفحة 70.
محمد بن جعفر الكتاني: الأزهار العطرة الأنفاس بذكر بعض محاسن قطب المغرب وتاج مدينة فاس.

Roger LeTouneau : Fès avant le protectorat Tome 2 livre 8 chapitre 3
https://ouedaggai.wordpress.com/2017/03/08/a-propos-du-droit-dasile-au-horm-de-moulay-idriss/