التوقيفة والمحصور: لمحة عن لباس أهل عدوتي أبي رقراق
معظم الشعوب اليوم تنفض الغبار عن تراثها وتزيل أردية العتاقة عنه ليعرفه القاصي والداني في زمن أصبح العالم فيه قرية إن لم نقل "دربا" واحدا. فقصور أوروبا المهجورة عُمّرت وأُعيد إليها أثاث الأرستقراطية والملكية، والفرس أحيوا رسوم زرابي جداتهم لتُباع بالسوم العالين وأهل الهند عرّفوا أقاليم أخرى بحفلاتهم ومهرجاناتهم، وغيرهم من الأمم التي تنشر وتشارك ثقافتها وتقاليدها مع أهل الأرض كلهم.
من بين ما تتسابق الشعوب في الاعتناء والتعريف به فهو اللباس والحلي الخاصة بها، إذ أنها مظهر من مظاهر الغنى الثقافي ومعلم أساس يقاس به مدى تحضر الأمم ورقيها.
وبلاد المغرب الأقصى ليست بمتوانية ولا متباطئة في مشاركة ما لها من رياضات ودور تضاهي قصور ملوك الإفرنج والإنجليز، وما تضمه صناديق أهلها من مشغولات حرير وصوف تنافس ما هو عند الترك والفرس، وأما المواسم والحفلات فهي كثيرة بما لا تحصي الأصابع، وما تتشعب فيه المعتقدات والعوائد، تشعب ديانات الهند وآلهتها.
أما إن جئنا للباس، فرجال ونساء المغرب الأقصى أبانوا عن علو كعب في حسن الذوق ورقي الهندام منذ قدم الزمان، فبهذه البلاد من التنوع في الألوان المتدرجة والوفرة في الأثواب ما جعل خياطيها يبدعون بالأنامل ما جادت به المخيلة من تصاميم تحاكي الطبيعة في دقتها ورزانتها وتحير الألباب بتفردها، بل وتفرد كل منطقة عن الأخرى بها.
في مقالات سابقة تحدثنا عن "كسوة الجوهر" و"الحنطوز" واليوم سنضبط آلة الزمن لتعود بنا إلى حاضرتي أبي رقراق قرون خلت.
لو كان لأبي رقراق أن يتكلم لحكى عن عدوتيه وما لهما من تاريخ ضارب في القدم وباع طويل في التحضر والأدب ومراعاة الأعراف السائدة والتقاليد الخاصة بهما.
وإن كانت لكل عدوة حياة اجتماعية خاصة بها، تضم ما تضمه من لهجة مميزة وأطباق متفردة وعوائد تخصها، فإن رباط الفتح وسلا المحروسة تشتركان في بعض الجوانب الأخرى كاللباس الرسمي الخاص بهما.
التوقيفة: لباس عروس العدوتين
كما هو لباس الحضريات، فلباس العروس الرباطية والسلاوية يتميز بغناه وتعدد قطعه.
كل مساء وطيلة أسبوع العرس، تبرز العروس لساعة من الزمن وهي تضع عليها التوقيفة. والتوقيفة اسم مؤنث باللسان الدارج عن العربية من فعل أوقف دلالة على التاج الموقف برأس العروس.
يجب على العروس إلزاما أن ترتدي "تحتية" بيضاء وسروالا أبيض جديد، عليه قفطان مخملي لونه يشبه العقيق الأحمر، جوانبه مطرزة بالصقلي الحر على شاكلة السفيفة، وتفصيل القفطان هو ما يعرف بالقفطان الرباطي.
لهذا القفطان المخملي أكمام جد عريضة، تدور بطوقه وجوانبه (جلايله) خيوط الصقلي الحر المعروفة بالكالون، وما يميز القفطان الرباطي عن الباقين هو أن أزراره الحريرية –العقاد- لا تزين إلا النصف العلوي من الفتحة الأمامية ويزين الصدر تزويق الكالون.
وقفطان العروس عادة لا تغلق أزراره ولا يوضع عليه حزام لما في ذلك، حسب المخيلة الشعبية، من فأل سيء قد يجلب لها العقم.
وأما التوقيفة، أي الشدة التي اختصت بها العدوتان فيجمع شعر الرأس ثم توضع عليه "الشربية" وهي حجاب طويل من الحرير الأحمر له حواشي مذهبة، بعدها "الشد الأبيض" وهو منديل قطني يوضع عليه "العبروق" الحريري الأحمر فيصير هيكل الشدة هرميا يُلبس بأشرطة المخمل المسماة "الخيوط" تتدلى منها بعض اللآلئ الملونة.
وعلى كل هذا يوضع "التاج" المسمى ب"السفيفة" والمنبت والمحاريب الذهبية المخرمة والمرصعة بالزمرد والياقوت المتناسقة وخيوط الصقلي المضفورة على الجانبين "ضفاير الصقلي" مع "الزراير" وهي كشلالات من الجوهر الحر.
وفوق كل هاته الزينة الغنية والثقيلة، يوضع شال حريري يطلق عليه "الكنبوش"، وهو كالشربية والعبروق مما كان يُنسج بفاس وعرفته نساؤها.
وبالنهاية فإن إزارا من الحرير يغطي جانبي الشدة وينسدل ليلف العروس ما عدا يديها. أما الحلي التي لا تكتمل الزينة من دونها، فلأذني العروس "الدواح" ولجيدها "اللبة" و "تازرا" ذات القلائد الثلاث ولمعصمها النبالة ولقدميها "الخلاخل".
وتتكلف الشريفات الأصل بتزيين عرائس العدوتين الزينة المسماة "بيوض الوجه" وهي خلطة من المستحضرات التقليدية التي بها وجه العروس ومن شأنها أن تحفظها من العين والأرواح النجسة، في حين أن يديها مزوقتان بالحناء جلبا للفأل الحسن.
كسوة المحصور: لباس أهل البحر
ومما تضمه الرباط وسلا من لباس خاص بأهلها تقتسمه وبعض أقاليم المغرب الأخرى فهو كسوة المحصور أو كسوة البحرية.
فإن كان لباس العلماء والتجار يتشابه بكل حواضر الأقصى، فإن عدوتي أهل لوداية وحفدة سيدي بن حسون لهم قطعة رجالية شاع استعمالها بين رياس البحر ومنهم إلى باقي القوم، فكسوة المحصور عثمانية الأصل كما قال بذلك الباحثون في الأمر، وانتشرت بشمال إفريقيا عن المجاهدين من أهل المغرب وتونس الذين نقلوها عن الانكشارية البحرية العثمانية، إلا أن كل بلاد وضعت فيها لمستها وأصبغت عليها من خصائصها فتحولت إلى لباس أسود مطرز الحواشي بتونس، وإلى ما هي عليه بالرباط وسلا وكذا بعض المدن الأخرى.
تجد كسوة المحصور أصل تسميتها في أنها "محصورة" أي غير واسعة على عكس ما كان عليه اللباس ساعتها. وقد كان كل رجال البحر يكتفون بها كلباس، في حين أن التجار وغيرهم يضعون فوقها جلبابا مفتوحا.
هذه القطعة الفنية الفريدة متكونة من:
- سروال له حزام مطرز الجوانب بالخاصرة يجمعه هو التكة، ومفصل بشكل واسع من أعلى يضيق بالساقين.
- البدعيات، "م: بدعية": وهما صدريتان توضعان تباعا، قطعتان دون أكمام، لها أزرار "عقاد" تغلق في الصدرية الأولى بينما تبقى الصدرية الثانية مفتوحة أزرارها تزينها من الجانبين ضفائر حريرية هي سفيفة المجدول.
- السترة: ويطلق عليها "المنطال أو المنطان"، وهي قطعة بديعة التطريز بالضفائر الحريرية، لها أكمام محصورة غير واسعة، مفتوحة حاشيتاها إلى الساعد ولها أزرار "عقاد" هي الأخرى.
قد تبدل السترة أحيانا ب" الجبادولي" وهي قطعة من ثوب خفيف بلا طوق أو قلنسوة، لها شق خفيف بالجانبين ومفتوحة دون عقاد بالصدر، ضيقة الأكمام لها أزرار بالساعدين.
وعلى القطع الأربع توضع أحيانا الفوقية، فيسمى اللباس عندها " الكسوة الخماسية".
المتأنقين من رياس وتجار البحر يضعون "الجوخة" على كسوة البحرية، وهي قطعة من صوف منسوج نسجا خفيفا، مفتوحة الصدر ولا يزرها إلا زر واحد بالطوق.
والقطعتان ما هما إلا لمحة خاطفة لما تزخر به قصبة الرباط وحاضرة سلا من إرث حضاري يشمل جميع جوانب الحياة ويخلق التميز لحضارتين من أقدم وأعرق المدن المغربية.
بقلم الباحث: إلياس أقراب
المصادر:
Besancenot Jean : Costumes du Maroc, pages : 140-141/144-145.
Alaoui Rachida, Costumes et parures du Maroc.
Brunot Louis : Noms des vêtements masculins à rabat, Etudes nord-africaines et orientales.