لبيك يا قدس: عريضة فاس نصرة للقضية الفلسطينية

لبيك يا قدس: عريضة فاس نصرة للقضية الفلسطينية

أحداث كثيرة عاناها ويعانيها إخواننا بفلسطين، وهذا يعيدنا إلى سنوات الاحتلال الأولى بعد وعد بلفور، عندما بدأ اليهود يتوافدون على فلسطين، واستوطنوا أراضها قبل 1948. فرغم أن العالم العربي كان منشغلا بمقاومة الاحتلال في بلاده إلا أن قضية فلسطين شغلت بال المسلمين في أرجاء المعمور، وجعلوها قضية وطنية لا تقل أهمية عن استعمار بلادهم، ولم يكن المغرب بشاذ عن القاعدة. وكيف له أن يخرج عنها وصلاح الدين الأيوبي شرف أهل المغرب بأن جعل لهم حارة وبابا يسميان باسمهم، وجعل لهم من الأوقاف ما يوازي الأوقاف التي وهبها السلاطين إلى ثالث الحرمين.

العلاقة بين فاس والقدس هي قديمة ومتبادلة، لولاها لما تمت التوأمة بين هاتين المدينتين العريقتين. ولو فتحنا كتب الرحلات لوجدنا أن المغاربة ما إن يكملوا رحلة الحج المبرور حتى يتوجهوا إلى القدس الشريف لزيارة مسرى الرسول والآثار الشريفة لبلد الأنبياء.  لن نتكلم عن كل هذا لما يستلزم من أبحاث وشواهد لا يتسع المقام لذكرها، بل سنقتصر على انتفاضة 1929 و لا نريد هنا ذكر انتفاضة البراق بالقدس بل انتفاضة أهل فاس في سبيل القدس.

يحكي لنا المرحوم محمد الفاسي كيف أنه في صيف 1929 جاء من فرنسا ليمضي العطلة، وصادف أن قرأ ذات يوم بجريدة فاس الناطقة بالفرنسية عن هدم اليهود لمسجد عمر بن الخطاب بموافقة الإنجليز، وكيف حز ذلك في نفسه لما للمسجد من حرمة في قلوب المسلمين. نتيجة لهذا القرار فإن محمد الفاسي فكر في إنشاء عريضة يوقعها أهل فاس احتجاجا على ذلك، وهو ما لقي القبول من طرف رفقاء دربه علال الفاسي وعبد الوهاب الفاسي مع محمد بن الحسن الوزاني، والحاج الحسن بوعياد . تم الاتفاق بضريح أبي السعود بن عبد القادر الفاسي جد العائلة الفاسية، وبه تمت كتابة العريضة بخط عبد الوهاب الفاسي الذي كتب لاحقا عريضة المطالبة بالاستقلال.

حملت الوثيقة سخط أهل فاس على هذا العمل الشنيع وعما أصابهم من ألم نفساني عميق جراء المس بمقدسات الأمة، وخرج الشباب الخمسة لأسواق فاس حيث تجارها وصناعها الذين وقعوا العريضة بدون تردد، وكلهم أمل في أن تصل أصواتهم. استمر جمع التوقيعات ليومين، وفي اليوم الثالث بزاوية سيدي عبد القادر الفاسي كان مقدمو الحومات ينتظرون الشباب -ما عدا الحاج بوعياد- ليأخذوهم إلى الباشا الذي سيرى في أمرهم، لذلك أسرع محمد الفاسي بإعطاء ابن عمه عبد الوهاب الفاسي العريضة ليطبعها بالملاح، وذلك ما كان. فعندما توجهوا إلى الباشا ابن البغدادي بدار بوعلي كان سؤاله لهم بماذا ستتصدون للصهاينة؟ أجابه سيدي علال الفاسي بمقولة كلها حكمة: إن قوتنا هي الدم الذي يجري في عروقنا. يكمل محمد الفاسي في مقاله أنهم اجتمعوا بحجرة بمخزن سلعة لأب الحاج بوعياد وحرروا هناك رسالة للباشا يطلبون منه أن يدفع الرسالة لقنصل إنجلترا بفاس ليرفعها إلى حكومته.

صور عبد الوهاب العريضة فتوجه الشباب إلى منزل الباشا بقنطرة بوروس واستقبلهم الباشا به، وهو الذي لم يلج أي فاسي داره الخاصة قبل ذلك التاريخ. يصف لنا سيدي محمد الفاسي التأثر على وجه الباشا عند سماعه هدم المسجد وحرمته التي جعلت أهل فاس يقومون بأول انتفاضة في سبيل القدس الشريف.

أخذ سيدي محمد الفاسي نسخة من العريضة إلى باريس حيث التقى بمفتي فلسطين أنذاك السيد أمين الحسيني، وكان للعريضة والمساهمات المجموعة لنصرة القضية أثر عظيم في نفس الزعيم الفلسطيني ونفوس الطلبة المشرقيين بعاصمة الأنوار.

كانت هذه صفحة مشرقة من التضامن المغربي مع أهل المشرق في محنهم، خاصة تلك المتعلقة بالمقدسات الإسلامية، وما هاته الانتفاضة إلا بداية لعديد من الانتفاضات التي تزايدت بعد 1948، وخلال حرب 1967 في سبيل القدس الشريف.

بقلم: إلياس أقراب

المصدر: مجلة دعوة الحق، غشت سنة 1981، 22 العدد 5، ص 40.