مليكة الفاسي: الأنثى الوحيدة التي وقعت على وثيقة الاستقلال

مليكة الفاسي: الأنثى الوحيدة التي وقعت على وثيقة الاستقلال
مليكة الفاسي: الأنثى الوحيدة التي وقعت على وثيقة الاستقلال

أهو الانتماء للمدينة الذي يجعل هالة المجد تحيط بهن؟ أم هن من حفرن أسماءهن في الحجر حتى زدن للمدينة صيتا فوق صيتها؟
لا يختلف اثنان أن الفتاة المنتسبة للدور الفاسية العريقة كانت ممن يرتفع مهرهن ويتسابق الخطاب فيهن لما عرف على نساء فاس من حسن التدبير المنزلي وعلو الكعب في الطبخ المغربي حتى أصبحت "الفاسية" بين جيرانها كالشمس تدور حولها الكواكب وتنهل من نورها الذي يضيء في كل المجالات, فهي صاحبة طرز الغرزة وكعب غزال كما أنها المرشدة لصديقاتها في العلاقات الزوجية دون إغفال ذوقها الحسن في اللباس والتنسيق في الأثاث المعروف داخل الأسوار بالتسماق والتاويل.                                                                              

كان هذا قديما طبعا, لكن أيها القارئ العزيز ليس بقديم إلى درجة يصل فيها إلى زمن السيدة العالية بن كيران التي كانت تلقي دروسا بمسجد الأندلس فهذا كان الزمن الذي أعطت فيه المرأة للتاريخ المغربي الشيء الكثير. كان هذا أيام السبات العميق إن صح القول عندما أفتى العلماء بعدم زواج خروج المرأة باللباس الأندلسي وبضرورة احتجابها وحتى أنه تم حبسهن في البيوت التي عرفها المستشرقون بالحريم التي كانت قائمة إلى بعد قيام الحماية الفرنسية قبل أن تشرق شمس نساء فاس من جديد ومعها نساء المغرب الأقصى...ظهرت أولى بوادر الدعوة إلى تعليم المرأة في عشرينيات القرن الماضي مع محمد الحجوي بالرباط والرفض الذي وجده أحمد أمين في مصر فقد كان للحجوي مثله بالمغرب إذ أن المجتمع وطبقة العلماء رفضت تعليم المرأة واختلاطها مع أقرانها الرجال. بعيدا عن الرباط التي أصبحت عاصمة المغرب كانت العاصمة الإدريسية وبالضبط داخل دار من الدور التي لها وزنها بالمدينة كانت هناك شابة يافعة اسمها خلده التاريخ المغربي المعاصر إنها لالة مليكة الفاسي أو كما هي عادة أهل فاس في تأنيث اللقب العائلي للفتاة فهي لالة مليكة الفاسية.                                                                                                                

ولدت مليكة الفاسي حوالي سنة 1919 في عائلة من أعرق عائلات أهل فاس فأبوها هو القاضي المهدي الفاسي وأمها هي لالة طهور بنشيخ. كان لها الحظ أن تولد لأب متعلم وأم واعية عرفا أن تقدم الأمة لن يكون إلا بتقدم الأسر لذلك فميلكة منذ صباها تعلمت بدار الفقيهة التي كانت منتشرة أنذاك ’وهي عبارة عن مسيد خاص بالفتيات فقط ما إن يبلغن الحلم حتى يقرن في البيوت,ولكن الأمر كان مختلفا معها هي إذ أن أباها خصص لها مكانا خاصا بالمنزل جلب إليه أساتذة من القرويين ليحرصوا على تدريسها بذلك فمليكة كانتالمقاومة تدرس على يد صفوة الأساتذة بالمغرب إلا أنها كانت دائما تتساءل لماذا إخوتها وأبناء عمومتها يدرسون خارج المنزل بينما هي تضطر لانتظار الأساتذة إلى حين قدومهم وكيف أن القرويين الجامعة التي بنتها امرأة ممنوعة على بنات جنس مشيدتها.                                              

أسئلة تربت مع مليكة الفاسي كما تربى معها النضال السياسي وهي تشاهد رجال عائلتها مناضلين ومقاومين بينما كل النساء تسارعن للاختباء عند دخول عنصر ذكري إلى ساحة المنزل كأنها لعبة قديمة لم يملها الجنسان.                                                                                                                                                                     

كان للالة مليكة السبق في أن تصبح أول صحافية مغربية نشر لها مقال بجريدة المغرب سنة 1935وهي ابنة خمس عشرة ربيعا وقعته باسم فتاة وفيه دعت إلى تعليم الفتاة كما هو الحال في أغلب مقالاتها التي توالت بين 35 و43 باسم فتاة وبعدها باسم "باحثة الحاضرة" تيمنها بالكاتبة المصرية المناضلة ملك حفني ناصف التي كانت توقع باسم باحثة البادية. وتجدر الإشارة أن لالة مليكة الفاسية تعتبر من الأوائل التي نادت بإعادة النظر في الزواج التقليدي القصري.

لم تكن المناضلة لتقبل بأن ينحصر نضالها في المقالات فقط بل بدأت بالاجتماع مع أعضاء حزب الاستقلال الذي ينتمي إليه أغلب أفراد عائلتها وزوجها أيضا سيدي محمد الغالي الفاسي الذي كان قريبا لها وكان له من الوعي ما جعله يعرف أن حرية المغرب تأتي بتحرر نسائه وتقدمهن فقد اشترك مع زوجته  وأغلب شبان الحزب أنذاك في فكرة أن المرأة الجاهلة لن تنشئ جيلا مثقفا بل سيكبر في وسط كله إيمان بالخرافة والمعتقدات الضالة.                                                                                                                                          

لعل الحدث الذي يعرفه الجميع عن مليكة الفاسي هو توقيعها على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 وهذا يعتبر حدثا هاما في تاريخ المقاومة بالمغرب وفي تاريخ حياة المناضلة إذ أنه ليس من السهل أن يكون اسمها مدرجا في وثيقة كل موقعيها رجال منهم العلماء والمحافظون الذي لم يكونوا ليتقبلوا تحرر المرأة إلا أنها وقعت باسمها ونسبها وسطهم.                                                                                                                                      

سنة 1946 بدأت تهتم لالة مليكة بإحدى أفكار الطفولة وهي إعادة مكانة المرأة بجامعة القرويين خاصة بعد أن حصلت الأميرة لالة عائشة على شهادتها الابتدائية وكتبت المناضلة في ذلك مقالا سمته "صحوة المرأة المغربية" مبينة فيه أن كل فتاة حالفها الحظ ونالت الشهادة الابتدائية يقابلها عائق هو عدم قبولها بأي مدرسة إعدادية لأنه لا تتواجد مقاعد للنساء وهذا ما جعلها تفكر في إنشاء كرسي بالقرويين خاص بتعليم الفتاة خاصة وأن النظام الفرنسي فتح بعض الأقسام الخاصة بالفتيات مما جعل القرويين توافق على إنشاء كرسي للفتيات لكن أن تموله المناضلات من مالهن الخاص.  

ما أعظمه من إنجاز وما أرخصه من طلب!  أهدت المناضلة المرحومة لالة راضية الوزاني الشاهدي منزلا بعين ازليطن في سبيل التعليم وباعت المناضلات حليهن ومصوغاتهن لتجهيز المنزل الذي أصبح أول مدرسة خاصة بالفتيات تابعة للقرويين تموله المقاومات.                                                                                                                                      

بحكم أنها امرأة فإن مليكة الفاسي كانت تدخل القصر بسهولة لعلاقتها مع حريمه وخاصة زوجة المغفور له المرحومة لالة عبلة وهذا ما سهل على أعضاء حزب الاستقلال التواصل مع سيدي بن يوسف واستشارته وهنا من جديد كانت لالة مليكة هي الوسيط الذي يحمل الأخبار والرسائل بين الطرفين أمام أعين المستعمر الذي لم يكن يشك لفترة في أن امرأة واحدة ستلعب دورا عظيما في حركة الاستقلال بالمغرب بعدة طرق وصلت إلى تكلف عناء ومشقة السفر للتواصل مع المقاومين من مدن أخرى.                                                                                                                           

أخيرا جاء الاستقلال وبزغ فجر جديد بالمغرب, وكما كانت لالة مليكة أخر من شاهد وودع الراحل محمد الخامس قبل أن ينفى فإنها أول من استقبله وشاركت معه فرحة الاستقلال بأن طلبت منه في مؤتمر سنة 1955 بأن يعطي حق التصويت للمرأة المغربية وهو ما لم يرفضه العاهل أنذاك.                                                                                                                                        

رغم أن لالة مليكة الفاسية لم تتبوأ أي منصب سياسي بعد الاستقلال فإن زوجها أصبح أول وزير للتعليم بالمغرب وهذا لم يمنعها من أن تنهي نضالها الاجتماعي الذي تربى فيها بل على العكس بدأت في محاربة الأمية وتشجيع التعليم بكافة أنحاء المغرب كما أنها دعت للمساواة بين الجنسين وقامت بالعديد من الأعمال الخيرية بجمعية المواساة في كتمان كما كانت تقوم بنضالها السياسي أيام الاستعمار فهكذا يكون الإيمان وحب الأوطان

أسدل الستار على حياة لالة مليكة الفاسية يوم 11 ماي سنة 2007 بمنزلها في الرباط ودفنت بضريح الحسن الأول مع زوجها محمد الفاسي. وقبل وفاتها بسنتين قام جلالة الملك محمد السادس بتوشيحها بوسام العرش من درجة ضابط كبير.


بقلم: إلياس أقراب


المصدر:
Femmes politiques d’hier a aujourd’hui de Osire Glacier. Tarik editions 2013