الحنطوز: زينة انقرضت
قل اليوم عدد العائلات الملتزمة والمطبقة لقواعد النظام و"التاويل" داخل حدود منازلها، إلا أنه وإلى عهد قريب، كانت عائلات عدة تعيش وفق قواعد دقيقة ومحددة لا يحيدون عنها. قد تختفي القاعدة مع اختفاء مؤسسها، وقد تعيش إن وجدت خلفا محافظا يحملها من الأصل ليزرعها في الخلف، فتُعمر وتصير قاعدة عامة لدى فئة معينة من الناس. هكذا هو سير الأيام وتواليها بالمجتمعات، ولم تكن فاس الإدريسية لتشذ عن ذلك، بل على العكس سطع نجمها في سماء المغرب واشتهرت بين المدن أنها مدينة النظام و ''التاويل''.
تطال قواعد النظام طريقة الأكل والشرب، طريقة الجلوس والحديث، كما أنها لم تغفل مظهرا من مظاهر الحياة الاجتماعية وهو اللباس. هذا الأخير خضع بفاس لتغيرات عدة، فكان تارة يُؤثِر وتارة يتأثر. دوما ما كانت رياح التغيير تهب على ملابس النساء أولا، ربما لأنهن أكثر اهتماما بالموضة ورغبتهن في التغيير كبيرة.، فهن من انتقلن مِن السروال الأندلسي المتموج إلى الحائك، ومنه إلى الجلباب بالقلنسوة، ومن الريحية إلى الشربيل، ليعوضه الكعب العالي. وإن كانت هذه التغيرات قد طالت نساء المملكة الشريفة قاطبة، فإن نساء الحضرة الفاسية ممن عاصرن الحرب واحتفظن بذكريات الطفولة سنوات قبل ذلك، يتذكرن زينة رأس لم تتغير إنما اختفت بغير رجعة.
أهو الفراغ الذي جعل النساء يُبدعن هذه الزينة المعقدة؟ أهو نوع من أنواع التمييز الاجتماعي، بما أن النساء المتزوجات وحدهن من كان لهن الحق في ارتداء هذه الزينة؟ أم ربما هي صرامة التقاليد التي ميزت حريم فاس من ألزمت المرأة المتزوجة بهذه الزينة؟ كأنها بها تجبر المتزوجة على التزام الحدود، وتضمن لها احتراما وحضورا وازنا بين بنات جنسها ،في منازل كانت تضم الأوانس بجانب الثكالى، والأرامل بين المتزوجات والمطلقات. أسئلة قد تطرحها عزيزي القارئ، أو ربما تتبادر إلى ذهنك أيتها القارئة وأنت تعدين القطع المشكلة لهذه الزينة العريقة والمسماة ب''الحنطوز''.
إن اختفى هذا الاسم من لسان الفاسيات منذ زمن، فهو مازال دارجا على لسان قريباتهن بنات الحمامة البيضاء "تطوان"، كما أنه ظل معروفا لدى حفيدات السيدة الحرة نساء شفشاون. معروف نعم، ويُشكل جزءً من تراثهن الأندلسي. إلا أن الحنطوز عند سيدات فاس سابقا هو مختلف عن الطريقة التي تعقد بها حاليا نساء الشمال ''الشدة''، ويكاد لا يمت بصلة للحنطوز بالفرخة أو حنطوز الشربية (لباسا عرائس الشمال) إلا في تشابه الأسماء.
كل قطعة من الحنطوز هي تاريخ محكي أو منسي، تَقُصُّ -لمن يجيدون الإنصات- أمجاد الماضي وعراقة الأصول القادمة منها.
قبل أن يوضع هذا الحنطوز، يجب أن يُمشط الشعر جيدا ويضفر للخلف غصنين مشتبكين يُجمَعان كالكعكة، قبل أن توضع عليه ''الشربية'' وهي قماش مشبك أسود ينتهي بشرائط ذهبية جد عريضة. فوق هذه الشربية، يوضع تاج من حرير أحمر مبطن، على جانبيه حواش مبطنة كذلك (كالخمارين)، وهما على قدر من العلو. يُشذ التاج للخلف بخيط من المطاط يمر من تحت الكعكة المعمولة سابقا. هذا التاج هو الذي أعطى اسمه للزينة كاملة.
تُبسط على الحنطوز عصابتان مطرزتان بالذهب، يُطلق عليهما اسم ''الحفايظ'' لتضاف لمسة المرأة هنا عن طريق إسدال منديلين بأهداب من الحرير يسميان "السبنية". تُغطي السبنيتان الحنطوز، وتتدلى أهدابهما على الظهر. تختلف ألوان السبنيتين بين أزرق وذهبي، أصفر مع أسود أو أحمر يرافقه الأخضر. تبقى الطريقة موحدة ولا يبرز الاختلاف إلا في طريقة وضع السبنيتين، فهما تارة متوازيتان وتارة تختفي واحدة لصالح أخرى. وكيفما وضعت السبنيتان، فإن شرائط الشربية المذهبة تُسدل على الكتفين في النهاية.
يحدث أحيانا، وفي محاولة لبعض الطائشات أو ممن يردن أن يعرضن ثروتهن، أن يعضن تويجا فوق هذه الزينة، إلا أن ذلك يُعبّر عن قلة في الذوق.
نفس طويل ومهارة باهرة يتطلبها إعداد هذه الزينة الثقيلة والجميلة، التي تضفي -إضافة لجمالها- هيبة ووزنا على مرتديتها. وكما أسلفنا بالذكر، وحدهن النساء المتزوجات من سُمِح لهن بارتدائها في مجتمع وزمن كانت التقاليد هي قطب رحاه وجوهر تكوينه.
بقلم إلياس أقراب
المصادر:
Gabriel Charmes: Revue des deux mondes:1886,tome 7 pages 425-426